الخالة الزعلانة

خميس, 09/24/2020 - 22:38

 كعادته كل يوم طرق السيد فرهود بائع الصحف الباب صباحا ثم رمى الجريدة وكان هذا ديدن اكثر البيوت في بعقوبة . وعند نهاية الشهر يأتي ليأخذ ثمنها وبعدما رحل جاءت احدى معارفنا وهي من محافظة اخرى وبعد السلام والترحيب قالت لوالدتي : انا خاصمت زوجي فطمأنتها وقالت لها ( البيت بيتك ) تمكثين معنا مُعززة مُكرَّمة . كان الجار سابقا يشكو همه لجاره ويثق فيه احيانا اكثر من اهله وتنطبق عليه بحق مقولة (الجار قبل الدار) وبعد فترة جاء زوجها لإرضائها فرحلت معه . هذه الحادثة حصلت عندما كنا نسكن مُقابل جامع الشابندر وبعدها بمُدة عادت مرة اخرى ولكننا كنا قد انتقلنا الى دارنا الجديد مُقابل مطعم العافية . لكن للاسف طال الزعل هذه المرة . 

 كنت صغيرة ولهذا كانت الخالة تشعر بالملل فتقول لها والدتي اخرجي مع ابنتي للتنزه قريبا من البيت وامسكي بيدها جيداً فأذهب معها لأسليها وعند خروجنا عصرا تكون وجهتنا القنطرة المواجهة لمرطبات الكوثر حاليا فنعبرها الى الجهة الاخرى . كان اول بيت هو للسيد (ابو فريد ) مقابل عمارة الكرخي الذي كان يسكنه سابقا النائب لطفي عزت ابو وئام وبجواره بيت ناجي قحطان المتولي الذي كان لديه سيارة اوبل ذات باب واحدة ورقمها مُميز جداً هو 15 . اشترى هذا الدار فيما بعد السيد عبد الستار جسمله وبنى مكانهُ عمارة من ثلاث طوابق تحتها دكاكين وبجوارها مدرسة بعقوبة ثم بيت المديرة الست صبيحه ام صديقتي الصغيرة ( الن ) عندما كنت في الصف الاول ابتدائي وهي مسيحية الديانة . اشتراه السيد شعبان رجب وهو موجود حتى الان وبجواره مديرية البيطرة التي كانت كبيرة جداً وواجهتها من شبابيك زجاجية وباحتها فيها مجموعة من الحيوانات التي يُؤتى بها للتداوي وقد اشتراها فيما بعد السيد حسين العليوي وبجوارها دار سكنه السيد ذياب ابو السيد طارق ابو زياد وكان الشارع مملوء بالبط لانه مولعٌ به وبعدها اصبح ملكا للسيد فاضل اسطه عباس ابو اسامه . 

 نعود بعد هذه النزهة الجميلة الى القنطرة المواجهة للمزلقينة ومنها الى بيتنا وعلى طول الشارع المطل على النهر حتى نصل الى الجهة الخلفية منه لان الدار من الخلف كانت تستعمل كحظيرة للحيوانات مقابل البيطرة ويفصل بينهما نهر خريسان فقط . كنا صغارا نلعب جميعنا اولاداً وبنات فقد كان الناس مسالمين جدا ( الدعبل والگوز الذي كان يملكه الاناث والذكور ) ندخل من الباب الخلفي انا والخالة الزعلانة بعد اكمال جولتنا الصغيرة حيث كان الباب كبيراً جدا لانه مُخصص لدخول الابقار لان الراعي يذهب بها صباحا لتأكل العشب والجت المزروع خصيصا لها في بستاننا المُحاذية الى ( مقبرة اليهود ) التي كان امتدادها من راس البلدة الى قاعة عشتار مقابل القبة الزرقاء . كانت الحظيرة كبيرة تمتدُ الى بقجة الدار (بستان صغير) وكان العمال يقومون صيفا بتخزين التبن والتمر الزهدي واكياس النخالة والخبز اليابس الذي يقطع الى قطع صغيرة ويحضر لفصل الشتاء وعند مجيء الحيوانات كان يخلو الشارع تقريبا من المارَّة والخالة الزعلانة خلف الباب . فمن غير اللائق في تلك المرحلة ان تخرج المرأة ليلا الا في حالات نادرة 

... اما نحن الصغار فقد كنا عند الغروب نضع الحصى بالمصيادة (الگوز ) ونقوم بالرمي على زجاج البيطرة رغم ان جزءا منها يسكنهُ البيطار ( الطبيب البيطري ) وعائلته ابو الست سليمة مُعلمتي في الابتدائية ويخرج ليقول بحدة وبصوت عالي من كسر الزجاج ؟ نحن نرمي المصيادة على الارض مباشرة ونقول له لانعرف وهذه العملية تكررت دائما ولم يستطع يوما امساكنا ابداً ...

 كان مُقابل الدار التي اشتراها شعبان رجب سُلَّم يتكون من اربع ( بايات ) ينزل الى نهر خريسان . اكثر العمال والكسبة يترددون عليه ويسبحون ويغتسلون فيه وفي جعبة كل منهم الليفة والصابون وملابس نظيفة وكان يقابلهُ بالضبط حوضا كبيرا بناه الوالد على نفقته لسقي البقجة العائدة لنا صيفاً والعمال ايضا يأتون بين فترة واخرى لسقيها بواسطة عبوات الالمنيوم ( تنكات ) حيث ينزلون الى النهر ويغرفون الماء ويسكبونه في الحوض ( مقبض التنكات كان يصنعها النجار بوضع خشبة مدورة متينة ويقوم بدق المسامير على جانبيها ) .

كانت اجمل ايام حياتنا فقد كنا نتزل الى الحوض معهم والوالد يراقبنا نسبح ونخرج وعند الغروب ارصد يوميا رجلا اسمه حبش متوسط العمر يأتي عندما يخلو الشط من البشر ليغتسل لوحده وكانت الخالة الزعلانة تقف خلف الباب تراقبني لاني كنت اخرج انظر اليه من خلف الشجرة الكبيرة التي كانت مقابل بيت السيد محمود الكواز ابو شاكر ( الجار العزيز ) وكنت بدوري اجمع الحصى وعندما يدير ظهره ارميه بها واختفي . يبقى يتلفت يمينا وشمالا ثم يعود الى الغسل من جديد وكان الاعتقاد السائد ان الملائكة تظهر عند الغروب فقد كان النسوة لايسمحنَّ لاطفالهنَّ بالخروج ولكني كنت اخرج بمفردي فقد كنت شجاعة ولا اخاف ثم ضربته بحجارة كبيرة آلمته فرفع راسه ولم يرى احد ابداً ولبس ملابسهُ وخرج مُسرعا وترك الليفة والصابونة من الخوف وهو يصرخ باعلى صوته ( جني جني جني ) وبصوت مرتفع وبسم الله الرحمن الرحيم والخالة تنظر الى هذا المشهد والدموع تسيل على خديها من كثرة الضحك ولم اره بعدها ابداً وظل هذا المشهد في مخيلتها سنين طويلة وكانت كلما تزورنا تذكرهُ وتضحك من اعماق قلبها ...

 ابتسموا فلا شيء في الحياة يستحق الحزن ...

 قالَ : السماءُ كئيبةٌ وتجهما …........ قلتُ : ابتسمْ يكفي التجهم في السما 

 قال : الصبا ولّى فقلت له : ابتــسمْ … لن يرجعَ الأسفُ الصبا المتصرما 

فائزة محمد علي فدعم

 

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطرائف