صالون الدكتور تحسين طه أفندي

اثنين, 10/02/2023 - 16:44

 

صباح الزهيري

  المعروف ان الصالون هو مكان يستضيف فيه شخص بارز أو مهتم مجموعة من الناس إما للمتعة أو لصقل الذوق العام وتبادل المعارف والسجالات والمماحكات والحوارات ، على منوال الحكمة الشهيرة التي أطلقها هوراس حين عرّف الشعر قائلاً (إما للمتعة أو للتأدب), وفي الحضارات القديمة آثار لنفس فكرة الصالون الثقافي , فعند الفراعنة تواجدت التجمعات التي يتم فيها الغناء وإلقاء الشعر, وكذلك عند البابليين , كما اهتم الإغريق بمثل هذه التجمعات الثقافية, حيث الالتفاف حول الغناء وقراءة الشعر في أماكن محددة , وفي العصر الجاهلي اشتهر سوق عكاظ , وقد كان منصة ثقافية عند العرب .

 

وقد عُرف الصالون الأدبي مقرًا يستضيف فيه مثقف مجموعةً من المثقفين لتبادل المعارف والحوارات الثقافية والأفكار التي من شأنها أن تنهض بالمجتمع والدولة فكريًا وثقافيًا وتنمويًا في عدة مجالات حضارية, وعادةً يهتم ذوو الوجاهة والأثرياء بإدارة الصالون الأدبي لرعاية الأدب والفن, وقد يختلف الباحثون في تحديد أقدم صالون أدبي عرفه التراث العربي تبعًا لتحديد المفهوم وخصائصه الذي يحدده كل باحث, فالملوك العرب في العصر الجاهلي كانوا يجمعون الشعراء وأهل البلاغة لسماع منتجاتهم الأدبية والمفاضلة بينهم , وكانت سوق عكاظ إحدى العلامات التاريخية البارزة في هذا المجال , لكن بعضهم يؤكد أن سكينة بنت الحسين كانت تدير أشهر ملتقى ثقافي عربي , حيث يجتمع عندها في بيتها بالمدينة المنورة نخبة الأمة من علماء وفقهاء ولغويين وشعراء وفصحاء , يتناقشون ويتحاورون ويتنافسون بحضرتها وقد كانت أحيانًا ترجّح بينهم أو تُغلّط بعضًا منهم أو توجّه برؤية نقدية حاذقة مبنية على أصول الموازنة النقدية , مروراً بصالونات الخلفاء الأمويين والعباسيين , ولعل من أشهرها الصالونات التي كان يقيمها الخليفة المأمون العباسي . وقبل الإسلام مثلا عُرف مجلس قيس بن عاصم .

 

منذ سنوات ضاع عدها , درجنا على ان نلتقي اسبوعيا كل صباح جمعة في صالون مكتب الدكتور تحسين طه افندي في داره العامرة في بعقوبة , مجموعة من المتقاعدين بيننا من كان موظفا او مدرسا او من شتى صنوف الوظائف الحكومية , يجمعنا كلنا حب القراءة والبحث والفضول العلمي والفلسفي ومناقشة امور الدنيا . والدكتور تحسين متخصص في دراسة التأريخ الأسلامي, والقديم منه على وجه التحديد , وله مؤلفات شهيره بهذا الصدد , يستزيد منها طلبة العلم ,ويستشهد بها الباحثون في مناقشة تفاصيل احداث التاريخ ,ولما كانت القراءة شاغلنا مثل التنفس والكتابة ايضا, فدائما عندما تضيق بنا الاماكن نجد مع الكتب ثمة فضاءآت, وآمال اخرى تنتظر التحقيق , فقد توافقت أهوائنا مع رغبات الدكتور في الأستمرار في البحث والنقاش . لايوجد جدول أعمال للقائاتنا , ولكننا نتبع طريقة خلية العصف الذهني ((Brain storm)) في استجلاب مواضيع النقاش ,  ونعتمد  منهج سقراط  الذي ظل يطالبنا الا ننصت أبدا إلى إملاءات الرأي السائد, بل الإنصات إلى إملاءات العقل , ولقد ثبت علميًّا بأنّ إدمان القراءة يُقلّل من أعراض مرض الزهايمر، فمن أراد شباب العقل وقوّته ونضارته فعليه بالمطالعة الجادّة والقراءة المثمرة التي تساعده على اكتساب ثقافة موسوعية بل تجعله مكتبة متنقلة تمشي على قدمين, وهو أمر شجعنا على الأستمرار في الحضور الناشط لهذه الجلسات . سبق أن أشرت ان مايجمعنا بالدكتور تحسين هو حب الكتاب والقراءة وألأطلاع , ويمكن ألأستشهاد بقول الشاعر الذي يهيم بالكتاب حبا ويخاطبه قائلا :

 

أنت الصفي إذا الإخوان قد كدروا

 أنت الوفي إذا ما صاحب خانا

 

, وكنت قد قرأت للفتح بن خاقان  الذي  كان مغرما بالكتاب حتى أن الكتاب لم يبرح أبدا حزامه أو طماق حذائه ( على حد قوله هو ) حتى عند دخوله المغسلة , ومن الحيل العجيبة التي لجأ إليها " السجستانى " أنه كان يلبس أقمصه ذات أكمام واسعة جدا ليتمكن من حمل كتب ضخمة بداخلها ,  وكانت زوجة العلامة  الزهرى  تقول ( والله أن هذه الكتب لأشد عليّ من ثلاث ضرائر) . نحن نعرف إن قراءة الكتب لا تُورِث -وحدها- الثقافة ولا الحكمة, فنقرأ الحرف لأن ذلك أمر بدأ به الوحي , لكن أيضاً نقرأ البشر, ونقرأ حكمة الله في أقداره, ونقرأ كتاب الكون المفتوح , ونؤمن أن اجتماع القراءات هو الذي يجعل كل منا إنساناً أفضل . ان المكان الذي يتواجد فيه الدكتور غالبا ما يتحول الى حلقة نقاش وجدال , ومن الطبيعي ان تتغلب فيه واقعية الدكتور وثقافته الواسعة لتجعله يسيطر على مجرى الحديث ويقوده الاتجاه الذي يبغيه وسط دهشة الجميع واعجابهم , كما نعترف ان للدكتور أحترامه لآرائنا وأعترافه بواقعية بعضها وأشادته بما نقدمه من جديد اليه, وهو كاتب تقدمي استطاع أن يواجه بجرأة الجمود السلفي، وأن يحفر وسط جدار السكون ثقباً يمرر منه ضوء يسمح للعقل بأن يعيد التفكير في كل الموروثات المحفوظة من السلف, والتي وصلت إلينا كما هي, نحافظ عليها ونحميها من التدقيق والفحص والغربلة, حتى مع تقدم العلوم والاطلاع على تاريخ الآخرين وأديانهم وأساطيرهم ووجود تشابه كبير بين ميثيولوجات الشعوب المختلفة والوصول إلى علم يدرس موروثات السلف.

 

مما تعلمناه من هذه الجلسات ومناقشة كتب الدكتور وجدنا انه استفاد من أستاذه د. طه باقر الذي ذكر في بحث لهُ في قانون "أشنونا "المكشوف عنه في "تل حرمل": "أن قانون مملكة أشنونا المعثور عليه في تل حرمل أقدم القوانين المدونة والتي جاءتنا من العراق القديم , حيث كان قانون حمورابي إلى زمن قريب أقدم شريعة في تاريخ البشر، ثم بدل هذا الرأي بعد استكشاف أجزاء من قانون سومري يعود إلى الملك لبث عشتار , وبما أن القانون المستكشف في تل حرمل أقدم زمناً من حمورابي بنحو من قرنين فيكون بذلك أقدم شريعة كشف عنها البحث حتى الآن , وعليه فمن يقرأ كتاب د. تحسين ( دراسات في تأريخ ديالى) سيجد اصداء ذلك الاكتشاف . في الجلسات يدور الحديث عن كتبه التي يناقش معظمها الجذور التاريخية التي أستطاع  أن يبلور فيها رؤية متماسكة للتراث بهدف إيجاد منهج علمي لدراسة التاريخ الإسلامي على ضوء الظروف التاريخية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أحاطت بالوقائع الإسلامية, ومدى تأثير هذه الظروف على طقوس الشريعة وقواعدها إنطلاقاً من فكرة أن كل جديد لابد أن يحمل في طياته تأثره بالقديم , وأن لا جديد يولد من العدم , بل شرط وجوده يكون لظهور متطلبات حتمته.

 

اطال الله عمر الدكتور , وسلام للذين يقولون لنا كلاماً جميلاً غير محبط حين نسقط ,الذين إذا وجدوا فينا جرحاً طيبوه أو حزناً مسحوه الذين لا يجيئون إلا بلسما, الذين حضورهم حب وكلامهم خير , الذين يرممون ما تبقى من أمل داخلنا , ويبقى أجرهم على الله, إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

 

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطرائف