العشيرة أخلاق وأصالة.. فمن سرقها منا؟

أحد, 09/14/2025 - 12:04

 

‏محمد النصراوي

‏كانت العشيرةُ العراقية ولا تزالُ في وجداننا النبضَ الأصيل والملاذَ الأمين، كانت حصناً منيعاً يحمي بكرامتهِ كرامةَ أفراده، ويذودُ بنخوته عن حياضهم، ويُجيرُ من لجأ إليها، كانت المدرسةَ الأولى التي تتعلم فيها الأجيالُ أن الشجاعةَ في الحق فضيلة، وأن الكرمَ شيمَةُ الأكابر، وأن إغاثةَ الملهوفِ واجبٌ مقدس، كان الشيخ فيها حكيماً يرعى مصالحَ قومه، يحل خلافاتهم بحكمةٍ وسداد، ويُذكرُهم دائماً بأن المشيخةَ أمانةٌ قبل أن تكونَ زعامة، وخدمةٌ قبل أن تكونَ سُلطة، فكيف تحول هذا الصرحُ الشامخُ في بعضٍ من صوره إلى ساحةٍ للنزاع، وغابةٍ يصول فيها الأدعياءُ ويتلاعبون بدماء الأبرياء؟ من الذي سرق منا هذه الأخلاقَ وهذه الأصالة؟

‏لقد تسلل إلى جسدِ العشيرة داءٌ خبيث، تمثل في ظهورِ فئةٍ من أدعياء المشيخة، أولئك الذين لا جذورَ لهم في الأصلِ ولا في الخلق، فبحثوا عن مجدٍ زائفٍ وسطوةٍ واهية، لم يعتمدوا على سابقةٍ من كرمٍ أو شجاعةٍ أو حكمة، بل اتكأوا على سلاحٍ يُمولونه بمالٍ مشبوه، وخطابٍ تحريضيٍ يغذي نارَ الفتنةِ بين الإخوةِ والأقارب، همهمُ الأولُ هو تحقيقُ مكاسبَ شخصيةٍ ونفوذٍ آني، حتى لو كان الثمنُ هو تمزيق النسيجِ الاجتماعي وإراقة دماءٍ طاهرةٍ تحت مسمياتٍ تافهة، لقد استبدلوا قيم العروبةِ الأصيلة بقيمِ الغاب، وصاروا سُلالةً جديدة تبحثُ عن المجدِ في دماء الآخرين لا في سمو أخلاقها.

‏ولكن هؤلاءِ الأدعياء وحدهم لا يقوون على شيءٍ لولا سكوتُ الدولةِ وتقاعسها، بل وتواطؤها في أحيانٍ غير قليلة، لقد غدا "الشيخ" في نظرِ بعضِ المؤسسات مجردُ رقمٍ في معادلةٍ سياسيةٍ أو أمنية، دونَ النظر إلى أصالتهِ أو أخلاقه، فمن يعطي سلاحاً أو مالاً أو غطاء، هو شريكٌ في جريمةِ سرقةِ هيبةِ العشيرة وتحويلها إلى ميليشياتٍ متناحرة، لقد غابَ تطبيقُ القانونِ وغابتِ الإرادةُ الحقيقيةُ لفرضِ هيبةِ الدولة، فصارَ سكوتُها إشارةُ ترخيصٍ للبعضِ بالاستمرارِ في تلاعبهم المُريب.

‏ولا ننكرُ ايضاً أن بعض أبناء العشائرِ قد تأثروا بغزوٍ فكري أفسدَ ذائقتهم الأخلاقية، فصاروا يسعون وراءَ المالِ والمنصبِ والوجاهةِ الوهمية، ونسوا أن النخوةَ الحقيقيةَ في حمايةِ الجارِ وإكرامِ الضيفِ وإصلاحِ ذات البين، لقد ضعفت قبضةُ الشيوخِ الحقيقيينَ وكبارِ السن، وصارَ صوتُ الحكمةِ خافتاً أمامَ السلاحِ وصراخِ الطامعين.

‏إن استعادةَ مجدِ العشيرةِ الأصيلِ ليست مستحيلة، لكنها تحتاجُ إلى إرادةٍ جماعيةٍ جريئة، على الشيوخِ الأصيلينَ أن ينهضوا من سباتهم، ويُعيدوا تعريفَ المشيخةِ الحقيقيةِ لأبنائهم، ويكشفوا زيفَ الأدعياءِ ومزاعمهم، وعلى الدولةِ أن تفيقَ من غفلتها، فتعترفَ فقط بالوجوهِ العشائريةِ الشرعيةِ المعروفةِ بنزاهتها، وتطبق القانون على كل من يتجرأُ على إثارةِ الفتنة، وعلى أبنائنا أن يعوا أن قوةَ العشيرةِ في وحدتها وأخلاقها، لا في تعددِ رؤوسها وانتشارِ السلاحِ فيها.

‏فالأصلُ لا يزالُ حياً في ضميرِ الكثيرين منا، وهو ينتظرُ منا أن ننفضَ عنه غبارَ السكوتِ والضعفِ والتهاون، فلنعمل معاً على إرجاعِ الروحِ إلى جسدِ العشيرة، فتعودَ كما أرادها أجدادنا، مدرسةٌ للأخلاق، وحصناً للكرامة، ومنارةً للأصالة.

 

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطراف