
محمد جواد الميالي
لم يعد الخطر على الأنظمة السياسية الحديثة، يأتي من الانقلابات العسكرية أو التدخلات الخارجية وحدها، بل أصبح يتجسد في أخطر صوره.. التلاعب وصناعة الرأي العام.
هذه الصناعة التي بدأت أدواتها بسيطة في الماضي، تحولت اليوم إلى منظومة متكاملة، تمتلك تقنيات إعلامية، ومنصات تواصل، وذباب الكتروني، لا همّ له سوى حرف بوصلة الناس عن قضاياهم الجوهرية.
حين يُراد للأفراد أن يفقدوا ثقتهم بأنفسهم، لا تحتاج إلى مواجهة عسكرية مباشرة، بل إلى سيل من المنشورات الكاذبة، وإغراقٍ في تفاصيل هامشية، حتى يتشتت العقل الجمعي، ويُختزل النقاش الوطني في قضايا سطحية، بلوكر، فضيحة او فاشينستا ولا أحد يعرف عناوين الصحف او المجلات.
هنا يصبح المواطن متلقياً سلبياً، يعيش حالة اللايقين، فلا يثق بالحكومة، ولا يثق بالمعارضة، ولم يعود يؤمن حتى بصوته الانتخابي، هذه الفجوة هي أخطر ما يُخطط له، لأنها تنسف الشرعية الديمقراطية من أساسها، وتخلق حالة مرضية قد تسمى "سايكو الديمقراطية".
العراق اليوم ليس استثناءً من هذه اللعبة القذرة، منذ سنوات، تتسابق القوى المتضررة من استقرار النظام على تضليل الناس، تارة عبر حملات تسقيط تستهدف الرموز السياسية والدينية، وأخرى عبر بث الشائعات حول مؤسسات الدولة، وما يُحاك ضد العراق لا ينفصل عمّا تتعرض له دول أخرى في المنطقة، فإيران تُحاصر عسكريا واقتصادياً، ولبنان يُدفع إلى حافة الانهيار عبر خطاب من شأنه أن يشعل فتيل الحرب الأهلية، واليمن غارق في حربٍ يُراد لها أن تُقرأ خارج سياقها، وكأنها صراع داخلي بحت، هدفه شيعة الشرق الأوسط، وفي العراق لا شيء مختلف، حيث يُراد للمواطن أن يشعر أن الديمقراطية كذبة، وأن الدولة غير قادرة على خدمته، ليصبح أي بديل آخر مقبولاً ولو كان عودة إلى الاستبداد!
هذه الاستراتيجية، التي يمكن تسميتها بـ "تفريغ الوعي"، تهدف إلى جعل شعوب المنطقة أسيرة خطاب العجز، فما يجري في إيران من محاولات لخلق فجوة بين الشعب ونظامه، وما يُراد للبنان من تصويره كدولة فاشلة، وما يُخطط لليمن من اختزال قضيته في بُعد طائفي، وما يُراد للعراق من إشاعة فقدان الأمل، كلها حلقات في مسلسل واحد، مشروع يهدف إلى إضعاف محور بكامله، عبر ضرب ثقة الشعوب بأنظمتها وتجاربها السياسية.
الخطر ليس في أن نخسر معركة عسكرية أو انتخابات، بل في أن نخسر وعياً كاملاً، أن نستيقظ يوماً لنجد أن المواطن نفسه لم يعد يرى جدوى في الديمقراطية، ولا رغبة له بالمشاركة، ولا استعداداً للدفاع عن صوته. عندها يصبح الطريق مفتوحاً أمام عودة الاستبداد بأشكال جديدة، أو تدخلات خارجية تحت ذريعة "إنقاذ" ما لم يعد الناس يؤمنون بقدرتها على الحياة.
أدرك الحكيم هذا الخطر، فكان ندائه تحذيرٌ وتساؤل.. فالكلمة المختصرة التي تتردد على الألسنة، ليست شعاراً انتخابياً فقط، بل جرس إنذار يُذكّر الجميع بأن الحفاظ على الديمقراطية مسؤولية جمعية، وأن التساهل مع التضليل الإعلامي قد يُضيّع فرصة بناء دولة عادلة، وما أصعب أن يقال يوماً.. لقد كانت لدينا تجربة، لكننا ضيّعناها.
