المقامة البغدادية في تَلَوُّنِ الأوطانِ وبكاءِ الأحياءِ

أربعاء, 11/05/2025 - 07:16

صباح الزهيري

حَدَّثَنَا الشَّيْخُ المَنْدَلَاوِيُّ الجَمِيلُ – أَبْقَى اللَّهُ طِيبَ مَقَالِهِ – مُسْتَلّاً دُرَّةً مِنْ صَدَفِ رِوَايَةِ تَشَرَّفْتُ بِرَحِيلِكَ لِلْمُبْدِعَةِ فَيْرُوز رَسَّام , فَقَالَ :

إِنَّ الْحُبَّ فِي وَادِي الْبُكَاءِ الْيَوْمَ , نَبْكِي عَلَى الأَمْوَاتِ وَغَداً سَنَبْكِي عَلَى الأَحْيَاءِ , وَإِنَّ الضَّحَايَا الْحَقِيقِيِّينَ لِلْإِرْهَابِ لَيْسَ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا الَّذِينَ بَقُوا عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ , فَلَمَّا سَمِعْتُهَا هَبَطَتْ عَلَى سُوَيْدَاءِ قَلْبِي كَشَهَابٍ أَحْرَقَ مَا فِيهِ مِنْ بَقَايَا صَبْرٍ , وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَلْسَمُهُ مُمِضٌّ , يُصَوِّرُ حَالاً مَا عَادَتْ تَلِيقُ بِهَا مَرَاسِمُ الْعَزَاءِ الْقَدِيمَةُ , فَالْمَيِّتُ قَدْ أَوَدَعَ شَكْوَاهُ فِي قَبْرِهِ , وَاسْتَرَاحَ مِنْ ضَغْطِ الأَرْضِ وَتَقَلُّبِ الزَّمَانِ , أَمَّا الْبَاقُونَ , فَهُمْ يَعِيشُونَ فِي وِزَارَةِ الأَحْزَانِ وَإِنْ تَنَاسَلَتْ وِزَارَاتُ دَوْلَتِهِمْ , يُطَارِدُهُمْ طَيْفُ الْغَائِبِ , وَيَأْكُلُ أَكْبَادَهُمْ قَلَقُ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي صَنَعَتْهُ الأَيَادِي الْقَذِرَةُ.

وَمَا أَصْدَقَ عَبْدَ الْوَهَّابِ مُطَاوِعَ , إِذْ قَالَ فِي مَعْرِضِ حِكْمَتِهِ :

لَقَدْ أَصْبَحْتُ أَشُكُّ دَائِمًا فِي أَنَّ هَذَا الْمَيْلَ الْغَرِيزِيَّ لِلْحُزْنِ دَاخِلَنَا , هُوَ مِنْ ثِمَارِ تَرْبِيَةٍ خَاطِئَةٍ فِي بِيئَاتٍ أُسَرِيَّةٍ حَزِينَة , تَتَوَجَّسُ مِنَ السُّرُورِ, خَوْفًا مِمَّا سَوْفَ يَلِيهِ مِنْ أَحْزَان , وَكَيْفَ لاَ يُصْبِحُ الْحُزْنُ غَرِيزَةً فِي بِلَادٍ عَجِينَتُهَا خَسَارَةٌ وَخَوْفٌ ؟ الْعِرَاقُ , يَا سَادَة , كَانَ أَرْضَ السَّوَادِ لِخُضْرَةِ النَّخِيلِ وَكَثَافَةِ الْخَيْرَاتِ , وَهُوَ الْيَوْمَ أَرْضُ السَّوَادِ لِسَوْدَاوِيَّةِ السِّيَاسَةِ وَعَمَى الأَلْوَانِ الَّذِي أَصَابَ الْقَوْمَ حَتَّى خَلَطُوا الأَبْيَضَ الْفَرِحَ بِالأَسْوَدِ الْبَائِسِ , فَفِي ظِلِّ هَذَا الْعَمَى الْبَصِيرِيِّ وَالْبَصَرِيِّ , يَطْفُو السُّؤَالُ الْكَبِيرُ عَلَى سَطْحِ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ :

مَتَى يَسْتَطِيعُ الْوَطَنِيُّونَ إِنْهَاءَ الْهَيْمَنَةِ الطَّائِفِيَّةِ؟ وَفِيمَ الانْتِظَارُ؟ يَا لَلْعَجَبِ , أَيَنْتَظِرُ الْبَعْضُ أَنْ يُقَدِّمَ لَهُمْ بَائِعُ السِّيَاسَةِ الْبِلَادَ تَسْلِيمَ مِفْتَاحٍ؟ , هَلْ نَسِيَ الْجَمِيعُ أَنَّهُ لَيْسَتْ هُنَاكَ سِيَاسَةٌ بِلَا مُخَاطَرَةٍ , وَأَنَّ الْوَطَنَ لاَ يُبْنَى بِتَوَجُّسِ السُّرُورِ وَالخَوْفِ مِنَ الْفِعْلِ , بَلْ بِالشَّجَاعَةِ وَالإِقْدَامِ عَلَى كَسْرِ حَوَاجِزِ الْوَهْمِ الْطَّائِفِيِّ الْمُنْتِنِ , فَهَلْ كُلُّنَا صَادِقُونَ فِي دَعْوَى خُصُومَةِ الطَّائِفِيَّةِ ؟ أَمْ أَنَّ هُنَاكَ مَنْ يَمُدُّ حِبَالَ الْوِدِّ فِي الْخَفَاءِ , تَحْتَ دَعْوَى وَحْدَةِ الْجَبْهَةِ الْفِكْرِيَّةِ وَالخَلْفِيَّةِ الآِيدْيُولُوجِيَّةِ , بَغْضَ النَّظَرِ عَنِ اللَّوْنِ الْمَذْهَبِيِّ؟ نَعْلَمُ أَنَّ مَصَارِينَ الْبَطْنِ قَدْ تَتَعَارَكُ كَمَا يَقُولُ الْمَثَلُ الْمِصْرِيُّ , وَلَكِنَّهَا تَعُودُ لِتَخْدُمَ مَعِدَةً وَاحِدَةً , وَتَمُدَّ دِمَاغًا وَاحِدًا بِالطَّاقَةِ , وَذَلِكَ الدِّمَاغُ قَدْ يَكُونُ خَارِجَ حُدُودِ الْوَطَنِ .

يَا سَادَةَ الْمَقَامِ , الْعِرَاقُ يَسْتَحِقُّ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ , وَالصِّدْقُ - كَمَا قِيلَ - صَابُونُ الْقُلُوبِ الَّذِي يَغْسِلُ مَا عَلِقَ بِهَا مِنْ رُكُونٍ إِلَى الشُّطْآنِ وَتَرْكِ الْعَوْمِ فِي عُمْقِ بَحْرِ السِّيَاسَةِ الْوَطَنِيَّةِ الْخَالِصَةِ , فَالْوَطَنُ لَيْسَ رُقْعَةً تُسَلَّمُ لِلْغَنِيمَةِ , وَلَيْسَ أَرْضًا رَخْوَةً تُبْتَلَعُ فِيهَا الْإِنْسَانِيَّةُ , الْعِرَاقُ عُنْوَانٌ تَتَصَاغَرُ دُونَهُ كُلُّ الْعَنَاوِينِ , وَمَنْ يَرَى فِيهِ جَاهِلِيَّةً صَنَعَهَا الْبِرِيطَانِيُّونَ وَيَجِبُ مُحَارَبَتُهَا لِإِعْلاَءِ عَنَاوِينَ أُخْرَى , فَهُنَاكَ الْوَاجِبُ الْوَطَنِيُّ لِلتَّشْكِيكِ فِي نَزَاهَةِ الْمَسْعَى . وَهَلْ نَحْنُ سِوَى كَائِنَاتٌ طُفَيْلِيَّةٌ تَعْتَاشُ عَلَى دَمِ الْعِرَاقِ؟ هَذَا سُؤَالٌ يَجِبُ أَنْ يَدُقَّ نَاقُوسَهُ فِي كُلِّ قَلْبٍ، فَالْفَسَادُ لَيْسَ مُجَرَّدَ سَرِقَةِ مَالٍ , بَلْ هُوَ نَهْشٌ فِي جَسَدِ أُمَّةٍ حَيَّةٍ , فَبَيْنَمَا الْعَالَمُ يَرْتَقِي بِعُقُولِهِ وَيَسْتَثْمِرُ فِي بَنِي الْبَشَرِ , نَرَى الْأَرْضَ الَّتِي أَنْجَبَتْ الْحَضَارَاتِ وَالْكِتَابَةَ الْأُولَى تَقِفُ مَشْلُولَةَ الْقُوَى , عِنْدَ ضَعْفِهَا الْمَكْشُوفِ , إِنَّنَا نَبْحَثُ عَنْ أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ جَمِيلَةٍ فِي الْعَالَمِ لِنَهْرُبَ إِلَيْهَا , وَنَسِينَا أَنَّهُ لَا مَكَانَ يُشْبِهُ الْوَطَنَ , وَأَنَّ بَرَكَةَ الْأَرْضِ لاَ تُعَوَّضُ بِزُخْرُفِ الْغُرْبَةِ , فَالْوَطَنِيَّةُ لَيْسَتْ شِعَارًا يُرْفَعُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ , بَلْ هِيَ التَّمَسُّكُ بِتُرَابٍ حَكَتْ عَلَيْهِ الْأَجْدَادُ حِكَايَاتِهِمْ , وَالِاعْتِصَامُ بِجَمَالِ الْبَقَاءِ حَتَّى فِي أَحْلَكِ الظُّرُوفِ , وَلَيْسَ النُّزُوحُ سَعْيًا وَرَاءَ أَرْضٍ بَدِيلَةٍ تُطَارِدُ فِيهَا الْأَحْلَامَ دُونَ دَفْعِ ثَمَنِ بِنَاءِ الْوَطَنِ الْحَقِيقِيِّ. يَا لَلْعِرَاقِ , كُلُّ بَقَاعِ الْمَعْمُورَةِ حَاضِرُهَا أَجْمَلُ مِنْ مَاضِيهَا , إِلَّا أَنْتَ فَعَقَارِبُ السَّاعَةِ تَسِيرُ إِلَى الْوَرَاءِ , وَثَرَوَاتُ النَّفْطِ الْهَائِلَةُ تَقَابَلُ بِفَسَادٍ طَاغٍ , حَتَّى صَارَتِ الْمُعَادَلَةُ الْفَاسِدَةُ مِنَ الطَّبِيعِيَّاتِ عِنْدَ أَبْنَائِكَ , فَلْيَكُنْ مِيزَانُنَا وَمِسْطَرَتُنَا وَاحِدَةً :

الْعِرَاقُ, فَمَنْ يَقِفُ مَعَهُ فَهُوَ مَعَنَا , وَمَنْ يُسِيءُ إِلَيْهِ , يَقِفُ تِلْقَائِيًّا عَلَى الْجَانِبِ الآخَرِ مِنَّا , لَوْ ذَهَبَ الْعِرَاقُ , فَكُلُّنَا ذَاهِبُونَ إِلَى الْعَدَمِ , فَلاَ تَغَادِرُوا إِلَى أَرْضٍ بَدِيلَةٍ , بَلْ قَاتِلُوا هُنَا لِتَطَارِدُوا أَحْلَامَكُمْ.

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطراف