من الركض خلف الناخبين الى الهرب منهم

خميس, 11/20/2025 - 16:52

 

‏محمد النصراوي

‏قبل أن يلفظ الصندوق الانتخابي قرار الأغلبية، يخوض بعض المرشحين مرحلتهم الذهبية، وهي فترة يتحول فيها صاحب الشهادات الرفيعة أو رجل الأعمال البرجوازي إلى أيقونة شعبية بامتياز، هو ذاك المشهد الذي لا يغيب عن ذاكرة العراقيين، حيث يرتدي السياسي "قناع الحملة" التكتيكي ببراعة، متخلياً عن بروتوكولات مكاتبه الفاخرة ليعانق بساطة المضائف.

‏فجأة، نرى المرشح وهو يجلس على الأرض مع الناس، يمد يده ليأكل معهم متجاهلاً الملاعق، يقترب من كبار السن ليقبل رؤوسهم باحترام مبالغ فيه، ويتحدث بلغة شعبية لا تخلو من مبالغات ووعود لامعة، في هذه المرحلة، تتحول مشكلة إنارة شارع صغير في حي بائس إلى "قضية وطنية عاجلة" في خطابه، ويطلق وعوداً لا حصر لها، مثل "سنحل مشكلة الكهرباء في مئة يوم"، متسلحاً بما يمكن تسميته "الإفراط في التفاؤل المُعدي" الذي يحول منصات التواصل إلى مسرح استعراض لمشاريع لم يوضع حجر أساسها بعد، هذه هي حميمية المقهى التي تذوب فيها الفوارق، حيث يقف المرشح لالتقاط الصور مع عمال النظافة والباعة الجوالين، لتصبح تلك الصور سلاحاً انتخابياً حاداً يثير المقارنة بينها وبين صور اجتماعاته الرسمية اللاحقة.

‏لكن، ما إن تعلن النتائج وتنجلي غبرة الفرز، تبدأ لحظة الحقيقة التي تكشف عن التباين الكبير في السلوك، ففي صف الفائزين، يتبخر "خادم الشعب" ليحل محله "صاحب المنصب" الجديد، ويتحول المشهد إلى "بروتوكول المكتب" البارد، أول مظاهر هذا التحول هو صمت المنتصر الهادئ، حيث يختفي الفائز عن الأنظار في الأيام الأولى، وتتحول تصريحاته العاطفية التي كانت تقول "نحن جميعاً في خندق واحد" إلى بيانات صحفية مقتضبة وجافة تتحدث عن "الالتزام بالبروتوكولات" و"تشكيل فريق عمل متكامل"، المفارقة الأكثر سخرية هي الاختفاء المفاجئ لرقم هاتفه المباشر الذي كان متاحاً للجميع، ليحل محله سكرتير أو "مدير مكتب" يضع الحواجز البيروقراطية ويتقن فن الاعتذار المهذب.

‏والأسوأ من ذلك هو البدء في تبرير "تقليص" الوعود، حيث يبدأ الفائز يتحدث فجأة عن "تحديات المرحلة" و"تركة الحكومات السابقة الثقيلة" و"الصعوبات اللوجستية" بدلاً من وعوده المطلقة، ليتحول خطابه من لغة العاطفة الملتهبة إلى لغة الأرقام الجافة والتعقيد الإجرائي، يقول مراقبون إن سيارة المرشح الفائز صارت تسير بسرعة أكبر لتجنب الازدحام الذي كان يقف فيه سعيداً لالتقاط الصور قبل أسابيع.

‏في الجهة المقابلة، يقف الخاسرون، ليتحولوا من "الثائر" المفعم بالحماس إلى المُحتج أو المُبتعد، وغالباً ما تبدأ نغمة "المؤامرة" في الظهور؛ الخاسر، حتى لو كان الفارق ضئيلاً، يتحول من الإشادة بالعملية الديمقراطية إلى التشكيك في نزاهتها، مستخدماً مصطلحات مثل "التزوير المنظم" أو "القوى الخفية" لتبرير الخسارة والحفاظ على قاعدة مؤيديه بإظهار نفسه كـ"ضحية" وليس كخاسر في السباق، أما البعض الآخر فيلجأ إلى "الإخفاء الطوعي"، حيث يختفي المرشح الخاسر عن الأضواء نهائياً لأسابيع، أو يعود سريعاً إلى "جلباب المهنة" الأصلية كطبيب أو محام أو شيخ عشيرة، وكأن شيئاً لم يحدث، متزامناً مع اختفاء لافتات حملته الخاصة بسرعة قياسية من الشوارع، أحدهم لم يعد يرد على الرسائل التي كان يُجيب عليها بعشرات القلوب الحمراء قبل أسبوعين.

‏إن الانتخابات ليست مجرد فرز للأصوات والأرقام، بل هي اختبار حقيقي لشخصية المرشح؛ اختبار يظهر الفرق الصارخ بين "المنتج الانتخابي المُسوق ببراعة" وبين "الشخصية الحقيقية التي ستقود وتتحمل المسؤولية"، فهل يستوعب الناخب العراقي في الدورات القادمة أن النكهة الحقيقية للمرشح لا تظهر في حلاوة الوعد والابتسامة الزائفة، بل في مرارة أو حكمة صمت ما بعد الفرز والتحول الواضح في سلوكه؟

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطراف