
سمير عادل
إن أي حركة سياسية تقدمية وتحررية، إذا ما سقطت في مستنقع الشعبوية، فلن يكون أمامها سوى التشرذم السياسي، ومن ثمّ الانتحار السياسي.
في مقالنا السابق (لماذا أُثيرت قضية “خور عبد الله” الآن؟ ومن يقف وراءها؟)، شرحنا الأسباب الحقيقية وراء الضجة المفتعلة حول خور عبد الله. وبغض النظر عن مدى قانونية الاتفاقية، فقد وقّعت عليها حكومة المالكي الثانية في نيسان/أبريل 2012، وصادق عليها كل من البرلمان ورئاسة الجمهورية، ثم نُشرت في جريدة الوقائع العراقية، العدد 4299، الصادر في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2013، وأُودعت لاحقًا لدى صندوق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المختصة بمثل هذه الاتفاقيات.
لقد تجاوزت حملة التضليل الإعلامي والدعائي التي أُثيرت حول قضية خور عبد الله كل ما سبق من حملات نظّمتها الطبقة السياسية الحاكمة لتضليل الجماهير. وما إثارة هذه القضية الآن إلا جزء من أجندة لا تستند إلى أي استراتيجية واضحة من قِبَل أولئك الذين “استفاقت لديهم فجأة صحوة وطنية”، وراحوا يرفعون أصواتهم مدوّين بالشعارات الوطنية، و يقرعون طبول استعادة خور عبد الله — رغم أنهم هم أنفسهم من قدّموها على طبق من ذهب للكويت، إلى جانب 52 مليار دولار كتعويضات، عرفانًا باعتراف المجتمع الدولي بهم كحكّام جدد للعراق بعد أن اجتاح الغضب العالمي النظام السابق إثر احتلاله للكويت عام 1990.
إن هذه الحملة التضليلية التي يقودونها لا تمت بأي صلة، لا من قريب ولا من بعيد، إلى نية حقيقية لاستعادة خور عبد الله. فهي لا تعكس أي استعداد لمعركة سياسية أو دبلوماسية، أو حتى لحرب تهدف إلى تعديل الاتفاقية أو إلغائها. بل تبدو وكأننا، من منظور البرجوازية القومية أو الوطنية المحلية، أمام طبقة سياسية تحكم دولة ذات هوية قومية راسخة، وجيشٍ ذي عقيدة عسكرية واضحة، مستعدٍّ لتنفيذ أجندات سياسية ذات سيادة — في حين أن الواقع يفضح هشاشة هذه الصورة بالكامل.
لكن الواقع مختلف تمامًا. فبعض من ارتفعت لديهم “الحمّية الوطنية” إلى حد الغليان بل والغثيان، يدرك — أو يتغافل — أن خوض أي حرب، بما في ذلك الحرب الدبلوماسية، يتطلب حدًا أدنى من الانسجام السياسي داخل الطبقة الحاكمة، وجبهة داخلية موحدة، وموارد مالية كافية، إلى جانب تحالفات إقليمية ودولية تتيح هامشًا للمناورة أو حتى لانتهاك المواثيق الدولية دون أن تُحاسَب — كما تفعل إسرائيل والولايات المتحدة، حين تدوسان على القوانين والأعراف التي كانتا من أبرز المساهمين في صياغتها.
أما في العراق، فإن الانسجام السياسي بين “الإخوة الأعداء” في العملية السياسية بلغ أدنى مستوياته. ومع تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة، وارتفاع أسهم تركيا، بدأ موسم تغيير “البوصلة السياسية”. ومن لا يملك بوصلة، لا يسعه سوى القفز من السفينة قبل أن تغرق. نرى هذا بوضوح في فائق زيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى. نرى هذا في فائق زيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى، الذي كان يبحر على متن سفينة ترفع علم الجمهورية الإسلامية، وفي رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، المعيّن من قبل “الإطار التنسيقي” الموالي لإيران، وكذلك في رئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد، ممثل الاتحاد الوطني الكردستاني، وهو الحزب الذي طالما اقترن ولاؤه بسياسات طهران في العراق.
واللافت أن هؤلاء جميعًا شهود زور على الغاء قانونية اتفاقية خور عبد الله في عام 2023 من قبل المحكمة الاتحادية، أي بعد عشرة أعوام من المصادقة عليها قربانا "للجارة" ايران عندما اختلفت مع الكويت على حقل الدرة النفطي والغازي في منطقة خور عبد الله . أما الجبهة الداخلية، فهي منهكة؛ جماهير العراق تموت من حر الصيف، البطالة، الفقر، وسوء الخدمات. الجماهير في واد، والطبقة السياسية المتصارعة في وادٍ آخر.
والحق يُقال، إن الذين يمسكون بزمام السلطة هم "سياسيو الغفلة"، لا يجيدون سوى النفاق السياسي والظهور الإعلامي الهزيل، وتبديل بوصلاتهم بحسب الضرورة، وضبط ساعتهم البيولوجية بين "الغفوة الوطنية" و "الصحوة الوطنية".
ما يثير في هذا السيرك الدعائي حول خور عبد الله من اشمئزاز، أن كل من يرفع صوته دفاعًا عن خور عبد الله، سواء من داخل العملية السياسية أو خارجها، هو متورط بشكل أو بآخر في الكوارث التي حلّت بالجماهير العراقية. وعليه، فإن السؤال الذي يجب أن يُطرح ليس البحث عن "من تنازل عن خور عبد الله؟"، بل البحث: على من الاحتجاج، وعند من الشكوى، وضد من هذا الغضب؟ إنها حقًا مهزلة سياسية.
إنه الإعلام نفسه الذي لا يتحدث عن أرصفة الموانئ في البصرة التي تتقاسمها الميليشيات، ولا عن استغلال العمال في شركات الإسمنت الفرنسية في كربلاء والسليمانية، ولا عن الكارثة البيئية في الأهوار، التي تسعى الحكومات المحلية، بالتنسيق مع بغداد، إلى تجفيفها لعرضها على شركات النفط. وكأنهم يكملون ما بدأه نظام صدام حسين حين جفّف الأهوار لأسباب أمنية. أما اليوم، تتولى المهمةَ الميليشياتُ والعشائرُ الفاسدة، عبر قتل الحياة فيها وتهجير أهلها.
واكثر من ذلك، لو نظرنا إلى جولات التراخيص النفطية التي وقّعتها الحكومات المتعاقبة مع الشركات الأجنبية، لوجدنا أنها تشرعن استغلال العمال والموظفين، وتمنح الشركات الأجنبية النصيب الأكبر من العائدات، فيما يُلقى بالفتات إلى الجماهير، وفي مقدّمتهم عمال وموظفو قطاع النفط، الذين يُحرَمون من حقوقهم الأساسية مثل زيادة الأجور، وبدل الصحة، والأرباح، والتنظيم النقابي. ومع ذلك، لا يُثير الإعلام الذي يشنّ الحملات حول “خور عبد الله” أي ضجة بشأن هذا الاستغلال، لماذا؟ لأن جزءًا من أرباح النفط يُوزَّع على الأحزاب السياسية الحاكمة التي تحمي تلك الشركات، وتستفيد من جولات التراخيص. لماذا لا ترتفع الحمية الوطنية عند هؤلاء اذا كانوا يبحثون عن الصحوة الوطنية!
وهناك عشرات الكوارث الأخرى، كما حدث قبل أيام، حين اندلع حريق في أحد المولات بمدينة الكوت، وراح ضحيته أكثر من مئة شخص.
وأخيرًا، ما يعنينا في هذا السياق هو ألا تنحرف بوصلة الحركة الاحتجاجية، وألا تتحول إلى ذيلٍ لهذه الجماعات، تخدم أجنداتها المشبوهة. إن حماية الحركة الاحتجاجية وتقويت حصانتها، لا تكون إلا بتسليحها بأفق سياسي واضح، وقيادة واعية تفضح سياسات هذه الجماعات، وتحافظ على الاتجاه السليم للبوصلة السياسية.
فحماية مقدّرات العراق — من خور عبد الله إلى الحقول النفطية، وطرد القواعد العسكرية الأجنبية، وقطع ذيول ايران في العراق، لن تتحقق إلا بالسعي إلى تغييرٍ جذري وثوري لهذا النظام الفاسد والجائر، لأنه المسؤول الأول عن جميع مصائب وويلات جماهير العراق.
