دروس من كواليس النجاح

سبت, 10/18/2025 - 10:17

محمود الجاف

في عالمٍ تحكمه قوانين دقيقة، حيث لا شيء يولد من فراغ، تبرز أمامنا حقيقة واضحة : أن العشوائية نادرًا ما تصنع مجدًا، والتلقائية قلّما تخلق إتقانًا . تمامًا كما لا يولد مشهدٌ سينمائيٌ باهر إلا بعد تدريب وتجهيز وتصحيح، لا يمكن لحياتنا أن تبلغ قمم النجاح والاتزان النفسي والسعادة إن بقينا على الهامش، بلا تخطيط، بلا مراجعة، ولا تقويم . إن أعظم ما في الإنسان أنه كائن واعٍ، يملك القدرة على أن يصنع يومه بيديه، وينتقل من دور المتفرج إلى دور البطل . لا على مسرح التمثيل، بل على خشبة الحياة نفسها .

فلنتأمل قليلًا :
لماذا تنجح الأعمال الفنية وتُخلّد؟
لأن الممثل الجاد لا يصعد المسرح دون إعداد، فهل يليق بنا أن نصعد على مسرح الحياة بلا استعداد؟ هنا تتجلى الفكرة :
أن نكون جادين في حياتنا كما يفعل الممثل المحترف عند اداء دوره الفني باتقان . لكن الفرق أن الحياة لا تتيح لنا دومًا إعادة اللقطات، لذا علينا أن نستعد بجدية منذ البداية .

1 : الإعداد المسبق : نقطة البداية
كل يوم جديد هو فرصة جديدة للإتقان . ولا يقتصر الإعداد على تجهيز الملابس أو الطعام، بل يشمل :
أ : نية صادقة لأداء الصلوات بخشوع .
ب : جدول منظم لوردك القرآني .
ج : خطة يومية لأهدافك الدراسية أو المهنية.
د : تنظيم أولوياتك وعلاقاتك.
و : وعي بالجوانب التي تطوّر نفسك فيها : دينيًا، ماليا، علميًا، نفسيًا، اجتماعيًا، رياضيًا، وثقافيًا .

الإعداد الحقيقي يبدأ حين تدخل يومك بأهداف واضحة، وعقل متحفز، وقلب متصل بالله .

2 : التقييم : مرآة نهاية اليوم
عند نهاية اليوم، وحين يُسدل الستار، تبدأ مراجعة الأداء .
التقييم لا يعني جلد الذات، بل صدق مع النفس دون مجاملة :
أ : ماذا فعلت جيدًا؟
ب : أين قصّرت؟
ج : ما السلوك الذي تكرر ويحتاج مراجعة؟
د : هل أنجزت ما خططت له؟
و : هل كنت حاضرًا مع الله، مع نفسك، ومع من حولك؟
التقييم يشبه مشاهدة "إعادة المشهد" بعد تصويره؛ ترى فيه الأخطاء، وتكتشف جوانب التحسين.

3 : التقويم : تحويل الملاحظات إلى تغييرات
لكن التقييم وحده لا يكفي، فما فائدة أن ترى الخطأ ثم تتركه يتكرر؟
التقويم هو النقطة الحاسمة، لأنه يُحوّل الملاحظات إلى قرارات عملية :
أ : تعديل عادة سلبية .
ب : تحسين علاقتك بشخص ما .
ج : ضبط إدارتك للوقت .
د : تصحيح نمط تفكير خاطئ .
و : اتخاذ خطوة نحو هدف مؤجل .

هكذا، لا يصبح الخطأ نهاية، بل درسًا يشكّل بدايتك الجديدة .
ولكن، رغم كل هذا الإعداد، والتقييم، والتقويم .
لماذا يظل بعض الناس عالقين في نفس الأخطاء؟
لماذا تفشل الخطط أحيانًا رغم وضوحها؟
هنا تبرز أهمية فهم البُعد النفسي للسلوك .

4 : البُعد النفسي للسلوك - لماذا تتكرر الأخطاء؟
السلوك البشري لا ينشأ فجأة، بل نتيجة تفاعل معقد بين الأفكار، والعواطف ، والتجارب المتراكمة .
على سبيل المثال :
إن ظلّت أفكارك تدور حول "أنا غير كفء" أو "الناس لا يحبونني"، فقد تنشأ مشاعر حزن أو قلق، تؤدي إلى الانعزال أو تجنب المواقف الاجتماعية . ثم يتحول هذا التجنب إلى نمط متكرر يعمّق تلك الأفكار، فتدور في حلقة مغلقة . هذه الظاهرة تُعرف في علم النفس بـ "الحلقة المعرفية السلوكية"، ويمكن كسرها من خلال :
أ : الوعي الذاتي : أن تلاحظ ما تفكر فيه وتشعر به بصدق .
ب : مراقبة الأفكار وتعديلها : لا تصدّق كل ما يقوله عقلك .
ج : تنظيم الانفعالات : التعامل مع المشاعر لا يعني إنكارها، بل فهمها والتصرف بوعي .

التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، من إدراك جذور سلوكك، لا من مجرد كتابة أهدافك .

خلاصة المنهج اليومي :
الإعداد المسبق – التقييم – التقويم – الفهم النفسي
هي رباعية ذهبية، إن التزم بها الإنسان بصدق، تحوّلت حياته من فوضى إلى مسار ناضج من النمو والنجاح المتوازن . فالحياة لا تُعطي جوائزها لمن يعيشها كما اتفق، بل لمن خطط، وقيم، وقوّم . كما أن النجاح لا يولد صدفة، كذلك الاتزان النفسي، وتطور الشخصية، والسعادة الحقيقية، هي نتائج لمنهج واعٍ، منضبط، وعميق .

وأخيرًا، تذكّر :
أنت الكاتب والبطل والمخرج في قصة عمرك .. في حدود إرادتك ومسؤوليتك، وتحت مظلة القدر الإلهي. فهل ستسمح لمشهَدك أن يُرتجل؟
أم أنك ستُخرجه بإتقان . وتستحق أن يُخلّد؟

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطراف