الحكامة الرشيدة ومكافحة الفساد: رهان وطني ومقاربة مؤسسية

اثنين, 10/20/2025 - 14:59

 

منذ تولي فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني مهامه، شكّلت مكافحة الفساد حجر الزاوية في مشروعه الإصلاحي، ومرتكزًا أساسيًا في برنامجه الانتخابي الذي جعل من الحكامة الرشيدة والشفافية شرطًا لا غنى عنه لتحقيق التنمية المستدامة. لقد اتضح من الممارسة اليومية أن الدولة تسير بثبات نحو ترسيخ ثقافة المساءلة والنزاهة باعتبارها ضمانة لنجاعة الأداء العمومي ومصداقية المؤسسات.

وفي هذا السياق، تتسارع الخطوات الحكومية بشكل متناسق ومتدرج لترجمة هذه الرؤية إلى واقع ملموس، من خلال تطوير الإطار القانوني والمؤسسي، وتفعيل أدوات الرقابة والمحاسبة، وتوسيع دائرة المتابعة لتشمل مختلف المستويات الإدارية. كما أصبح نشر التقارير الرسمية والإجراءات المترتبة عليها ممارسةً اعتيادية، تؤكد التزام الدولة بالشفافية وتكرّس مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.

لقد تم، كذلك، إدراج مكافحة الفساد في الإطار المؤسسي الصرف، مع احترام صارم لاستقلالية الأجهزة الرقابية وتمكينها من أداء مهامها في مناخ مهني خالص بعيد عن أي تأثير أو توجيه. وهي مقاربة تقوم على التوازن بين الصرامة في المتابعة، والاحترام التام للقانون وضمانات العدالة.

فمحكمة الحسابات تمثل إحدى الركائز المؤسسية الأهم في منظومة الشفافية والحكامة الرشيدة، فهي هيئة دستورية، كما أنها تضطلع به من دور رقابي مستقل على تسيير المال العام. وقد عرفت هذه المؤسسة، منذ تولي فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، نقلة نوعية في مستوى استقلالها وفعالية أدائها، من خلال تمكينها من ممارسة صلاحياتها في مناخ من الحرية والمسؤولية، بعيدًا عن أي تدخل أو وصاية.

ومن اللافت أن نشر تقارير محكمة الحسابات للرأي العام، بانتظام وشفافية، هو توجيه مباشر من فخامة الرئيس، لم يسبقه إليه أي من أسلافه، رغم أن المحكمة أُنشئت قبل وصوله إلى السلطة بنحو ثلاثة عقود. وقد شكّل هذا القرار سابقة في تاريخ الممارسة المؤسسية ببلادنا، إذ حوّل الرقابة المالية من ملف إداري مغلق إلى وثيقة عمومية مفتوحة أمام المواطنين والإعلام والمجتمع المدني، بما يعزز الثقة في مؤسسات الدولة ويرسّخ مبدأ الشفافية كأحد أهم أعمدة الإصلاح. فمحاربة الفساد تتطلب تضافر جهود الجميع ولا تكفي الآليات الرسمية وحدها للقضاء عليه.

كما حظيت المحكمة في هذا العهد بدعم مؤسسي وبشري نوعي، من خلال اكتتاب قضاة شباب من ذوي الكفاءة والنزاهة، ينضافون إلى نخبة القضاة الذين راكموا تجارب مهنية معتبرة وتميّزوا بالصرامة والشفافية في أداء مهامهم. وقد ساهم هذا الدمج بين الخبرة والتجديد في إثراء العمل الرقابي وتعزيز استقلالية المحكمة، تعزيز قدرتها على مواكبة التحولات الإدارية والمالية الحديثة بكفاءة وفعالية
أما تقرير المحكمة الأخير، فقد شكّل نموذجًا في الشفافية والتوضيح. إذ بيّن التقرير، بالنصوص والأرقام، غياب أي حالات اختلاس أو احتيال مالي تستدعي الإحالة إلى القضاء، مؤكّدًا أن ما ورد فيه يتعلق بأخطاء تسيير وإجراءات إدارية لا ترقى إلى مستوى الجرائم المالية. كما أوضح خطاب رئيس المحكمة هذه الحقيقة بجلاء، نافيًا الشائعات التي حاولت تضخيم حجم المخالفات وتقديمها في غير سياقها المهني.

وقد لوحظ في هذا الإطار تداول بعض الأخبار الزائفة التي تتحدث عن أرقام ضخمة لم يأتِ التقرير على ذكرها مطلقًا، كما انجرّ بعض الفاعلين والنخب وراء هذه الروايات المغلوطة دون الرجوع إلى النصوص الأصلية للتقرير أو التثبت من الوقائع الموثقة فيه. وهي ممارسات تُسهم في تشويش الرأي العام وإضعاف الثقة في المؤسسات الرقابية، في حين أن الحقيقة مثبتة في الوثائق الرسمية المتاحة للعموم بكل شفافية. وهذه الشائعات تخدم الفساد في المقام الأول وتضع العراقيل أمام محاربته.

من هنا، تأتي ضرورة التمييز بين الخطأ الإداري وبين الفساد الجنائي، وهو ما تبنته الحكومة في تعاملها مع نتائج التقرير. فقد أسست تدخلها على الأساس القانوني البحت، ملتزمة بالتكييفات التي حددتها المحكمة، ومتبنية إجراءات تصحيحية فورية حيث وُجد خلل في التسيير دون تجاوز لصلاحيات المؤسسات المختصة. وهو ما عبر عنه معالي الوزير الاول المختار ولد اجاي في لقائه بمسؤولي القطاعات الحكومية والهيئات التي شملها تقرير محكمة الحسابات 2022-2023.

إن هذه المقاربة تعكس التوجه الاستراتيجي الصارم للدولة في مكافحة الفساد، المبني على سيادة القانون واحترام المؤسسات، وعلى قناعة راسخة بأن الإصلاح الحقيقي لا يتحقق إلا في ظل منظومة مؤسسية متماسكة تعمل بمعايير الشفافية والإنصاف.
ويُسجَّل لهذا العهد أنه شهد إطلاق أول استراتيجية وطنية شاملة لمكافحة الفساد، تم إعدادها في إطار تشاوري واسع ضم مختلف القطاعات الحكومية والهيئات الرقابية والمجتمع المدني والشركاء الفنيين والماليين. وقد جاءت هذه الاستراتيجية لتُحوّل مكافحة الفساد من مجرّد شعارات ظرفية إلى سياسة عمومية قائمة على التخطيط والتقويم والمتابعة، محددةً الأهداف والمحاور والآليات بوضوح، ومؤطرةً بجداول زمنية ومؤشرات قياس دقيقة.

وتمثل هذه الاستراتيجية تتويجًا لرؤية فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، الرامية إلى ترسيخ ثقافة النزاهة في المرفق العمومي، وبناء إدارة حديثة تقوم على الكفاءة والشفافية والنجاعة. كما تؤكد أن الدولة لم تعد تتعامل مع الفساد كرد فعل، بل كظاهرة مؤسسية تُواجه بأدوات مؤسسية، في إطار نهج وطني شامل يزاوج بين الردع القانوني والوقاية المسبقة وبناء الضمير المهني.

إن النجاح في هذا المسار يتطلب انخراطًا وطنيًا واسعًا، وتفاعلًا إيجابيًا من كل القوى الحية والفاعلين في المجتمع. فمكافحة الفساد ليست مجرد حملة ظرفية، بل مسار وطني جامع، ومسؤولية جماعية تتطلب من الجميع المساندة والوعي بأن النزاهة ليست خيارًا إداريًا، بل قيمة وطنية ومشروعًا حضاريًا.
احمد عيسى اليدالي

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطراف