
ولاء العاني
تسابقت الأفكار في رأسي، من أين سأبدأ الحديث معها؟ المشهد كان ضبابيًا، كأنني أنظر إلى حياتي من خلف زجاج مكسور . لم أكن أريد أن أخسر أمي، ولا أن أغضب أبي . كانا كلّ شيء .
لم أكن طفلًا استثنائيًا، ولا نابغة يُشار إليه بالبنان؛ كنت هادئ الطباع، مسالمًا إلى حدّ الضعف. يا إلهي .. هل يُعقل أن يحدث كل هذا لي؟ لا، لا . أنا من صنع الظروف . أنا من لم يتعوّد أن يقول “لا”. لم أواجه أحدًا يومًا. كم أكره نفسي . لم أحبّ شيئًا فعلته في حياتي . كنت أريد التسجيل نادي رياضة، كنت أحلم بالفروسية، لكن أبي بسطوته، وبإقناعه لأمي، وجّهني إلى السباحة . وحتى المدرسة، حين رغبت أن ألتحق بمتوسطةٍ ذهب إليها أصدقائي، جاء الرفض جافًا :
“لا وقت لدي، المكان بعيد، كن كإخوتك.” ومرّت السنوات . لم أعد أذكر الألوان التي أحبها، ولا المغني الذي رافق مراهقتي . لم أسهر يومًا حتى وقت متأخر . كل شيء كان مضبوطًا على توقيت غيري . آه . الوقت لا يعود، والعمر لا ينتظر . وفجأة، قفز سؤال كالسهم :
ماذا سيحلّ بأطفالي؟
كيف سيكون شكل الغد بعد أن غرستُ السكينة في قلب أمهم؟ هل ماتت؟
توقّف قلبي لحظة. لا .. لم أرَ دمًا . ما الذي أفكر فيه؟
هل جننت؟
أم أن رأسي صار مسرحًا لخطط لم تُرتكب؟
ماذا دهاك؟!
كان داخلي يصرخ، يتهمني، يضع القيود في يدي قبل أن أفعل أي شيء . شعرت أنني مجرم في محكمة أفكاري، بلا جريمة واضحة، وبحكمٍ جاهزٍ مسبقًا . رنّ الهاتف . اهتزّ العالم من حولي . “زوجته على الخط.” جاء صوتها دافئًا، عاديًا، كأن الحياة لم تتصدّع قبل لحظات : “حبيبي، هل تحتاج شيئًا من السوق؟ سأكون بعد ساعة في البيت . انتظرني لنتعشّى معًا.” سكتُّ . وفي تلك الثواني القصيرة، رأيت نفسي كما كنت دائمًا : الرجل الذي يرضخ، الذي يخاف الصدام، الذي يختار السلام ولو على حساب روحه . ومرّة أخرى .. استسلمت لضعفي .
قلت بهدوء : “نعم .. لو سمحت.
” أغلقت الهاتف . جلست وحدي . أدركت حينها أنني لم أُولد مجرمًا، لكنهم علّموني كيف أختنق بصمتي، حتى صارت أفكاري أخطر من أفعالي .













