
محمود الجاف
كان شعب العراق يومًا يمشي بين الأمم، يرفع رأسه ولا يُجبر على الانحناء. إن سلّ سيفه، ارتجّت له العروش، وإن نطق، صمت العالم. العراق الذي تصدّى للمدّ الصفوي، كان سدًا من نار، لا تخترقه خناجر الخيانة، ولا تفتّ في عضده رياح الدجل، ولا تزعزعه عواصف الطائفية. كان قلب العروبة النابض، لا يُرتهن، لا يُساوَم، لا يُشترى .
لكن . من علّم النسر أن يُقبّل حذاء الغراب؟
جيل من أبنائه وقف كالأشجار في وجه الريح الصفراء القادمة من الشرق. لانهم أدركوا أن المعركة ليست بندقيةً فقط، بل معركة هوية ووجود. قاتلوا لأنهم علموا أن العدو لا يطمع في الأرض فحسب، بل يسعى لانتزاع الذاكرة، وتدنيس الشرف، وهدم النسيج الاجتماعي من الداخل .
لكن كيف انقلبت الأرض حتى أنبتت جيلًا يغسل أقدام الغزاة، ويقدّس الجلاد؟
كيف صار بعض الاحفاد يعتذرون عن بطولة أجدادهم، وكأن الكرامة كانت خطيئة، وتاريخ الشرف عارًا يجب إنكاره؟
ان الهزيمة الكبرى : ليست في الميدان . بل في الوعي
لان العراق لم يُهزم حين حوصِر، ولا حين قُصف، بل حين اخترق العدو عقول أبنائه. حين تغيّرت المفاهيم، فصارت الخيانة تسامحًا، والمقاومة إرهابًا، والسكوت حكمة، والذلّ دبلوماسية. قُطعت الألسن التي كانت تصرخ بالحق، وسُمّمت العقول التي كانت تتوهج بالكرامة. وبدل أن يعيد العراق مجده من تحت الركام كما كان، صار كثير من أبنائه يتراكضون لنيل رضا الجلاد، يمسحون حذاءه ويعتذرون له، كأن دماء آبائهم لا تستحق الذكر .
عراقنا . أيها الجبل المتصدّع . كنت تنبت الشجعان كما تُنبت النخيل، أما اليوم، كثيرون يولدون على أرضك، لكن قلّة فقط يُرزقون بوعي. الغالبية تقودهم عمائم الخرافة، والأفّاكون باسم الدين. ضاع مجدك لا لأنك هُزمت، بل لأن أبناءك تخلّوا عنك، وتنازلوا عن أمانة الكرامة . كنت تصنع النصر رغم الحصار، وتزرع الكبرياء رغم الجوع، واليوم يُباع النفط، وتُمنح السيادة مجانًا في أسواق الخضوع .
ايها الوطن الذي أنجب قادة لا يُشترون .
أين من قالوا : نموت واقفين ولا نركع ؟
أين من خاضوا معارك الأمة كأنها معاركهم الشخصية؟
أين أولئك الذين اعتبروا أن الشهادة طريقٌ للحياة لا للموت؟
أين الرجولة؟ أين الكبرياء؟
لا نندم على العراق، بل على من أضاعوه . لانه لا يموت. لكن تسكنه اليوم الكثير من الأشباح: وجوه بلا ملامح، قلوب بلا نار، أرواح بلا هوية . جيل لا يرى في العدو خطرًا، بل شريكًا، ويُغذّى بالكراهية لذاته حتى تمنى زوالها لإرضاء الآخر. جيل نسي بغداد والموصل وذي قار والبصرة، ونسي قبل ذلك أنه عراقي حرّ . لكن الأرض ما زالت خصبة، والدماء التي سُكبت على ثراك تصرخ : لن نُهزم . لكن لا خلاص قبل أن يُعيد الشعب بناء وعيه من الرماد. لا قيامة قبل أن تُكسر الأصنام الجديدة : الإعلام المضلّل، التعليم المفرغ، والدين المنحرف المُسيّس.
العراق سيعود . لكن حين يُولد فيه جيل لا يُقبّل الأقدام، بل يحمل على كتفيه كرامة أمّة. جيل لا يستجدي الرضا، بل يصنعه. جيل يُعيد للبطولة معناها، وللرجولة هيبتها، وللتاريخ مجده.
وإلى أن ينهض ...
فلنحزن كما يليق بالشرفاء،
لكن لا ننسى أبدًا :
أن الأوطان لا تموت، بل تنتظر من يوقظها.
