
تميز الشهيد محمد باقر الحكيم، عن كثير من القادة العظماء الذين سطع نجمهم في القرن العشرين، خصوصا أصحاب التأثير في قواعدهم الجماهيرية والذين كان لهم دور كبير في رسم ملامح مستقبل بلدانهم..
يعود هذا الاختلاف للسمات الشخصية للراحل الكبير، فهو رجل دين جمع بين العلم والعمل، عارف بتفاصيل مقاصد الشريعة الإسلامية، وهو السياسي الذي يمتلك الرؤية الثاقبة، والإدراك العميق لمجريات الأحداث العامة بمحليها وعالميها، وصاحب النظرة الاستشرافية لمآلات الأمور، والخيمة الجامعة لمختلف التوجهات، والوعاء الذي يستوعب كل الإرادات الرافضة لسلطة البعث.
غياب هكذا شخصية، ترك أثرا سلبيا واضحا في المشهد العراقي، جعلنا ندرك ذكاء خصومه من أعداء بلده ومنهجه، بتصفيهم لتلك الشخصية الفذة، حين شخصوا مبكرا بنجاح الدور الفعال الذي يتوقع، ان يقوم به شهيد المحراب فيما لو أستمر في الساحة السياسيّة، وهو ما يتعارض ونواياهم الشريرة، فعملت إرادة السوء لتدبير فعلها الغادر، بنية تظهر قوة التخطيط والتنظيم المتقن والاستعداد الدقيق، للتخلص من اهم رمز عراقي، جمع في مسيرة عمله بين البعد السياسي والديني، وتوظيفهما لخدمة المجتمع الذي عانى طيلة عقود، من هيمنة غاشمة ظالمة، أزهقت الأرواح وصادرت الكرامة ونهبت الثروات.
يضاف لفقدانه كشخصيّة وطنية وزعامة سياسيّة، أثر الفراغ الذي تركه في الساحة الحوزوية، التي كان يعتز بإنتماءه إليها، ويؤكد دورها كبيئة وحاضرة فكرية عقائدية، في بناءه الثقافي والسياسي والاجتماعي، وهذا ما أكدته بيانات النعي والتعزية عند إستشهاده، الصادرة من المرجعيات والشخصيات الحوزوية، ورجال الفكر والمثقفين في مختلف الحواضر الأدبية والثقافية..
كانت الحوزة العلمية ترى في وجود الحكيم في المشهد السياسي، ما يخفف عنها الحمل ويسقط عنها التكليف، ويغنيها عن التصدي المباشر، لإمتلاكه المؤهلات الشرعية والعقائدية والفكرية والعلمية، التي تبعث الاطمئنان لتصدي شخصية مثله، فهم يرونه ممن يمتاز بالحرص التام على مصلحة البلد وأبناءه، كما يظهر من عشرات المواقف المعلنة منه.
احد الأثار السلبية الأشد وقعا، كان على الواقع السياسي في العراق، خصوصا انه حصل بعد اشهر قليلة من الإطاحة بصدام، وضبابية المشهد حينها، وغياب الوعي بخطورة الوضع، لدى اغلب الفعاليات السياسية وعدم نضجها، وإدراكها بوجود قوات الاحتلال، لا على القيادات السياسية الشيعية، بل شمل جميع القوى التي تصدت للعمل حينها.. ومع رحيله فهمت تلك القوى كم كانت بحاجة لوجود شخص الحكيم، الذي عرفته عن قرب، وعملت معه سوية في المهجر، ورأت في حركته بعدا وطنيا لا يقف عند حدود الطائفة او القوميّة، وهو ما اعتبره كثيرون صمام أمان، لقوة تأثيره في الآخرين، وجمعه الفرقاء وعامل اطمئنان للتعايش السلمي بعيدا عن الفوضى.
لا يمكن أيضا أن نغفل تأثير غيابه المفاجيء والسريع على الساحة الشيعية، وخصوصا على المستوى النفسي لدى اتباعه ومحبيه، وإنعكاس ذلك على مستوى الأداء والتعاطي، مع الواقعية السياسية العامة لدى غالبية الطيف السياسي الشيعي، إذ يمكن القول إن وجود شخصية السيد الحكيم في الواجهة السياسية كانت مانعة للفوضى، الناتجة عن تعدد الزعامات وتفرع العناوين الصغيرة، والتي وفر لها غيابه عن الساحة، فرصة لممارسة دور الزعامة "المصطنع" خصوصا بعد أن وفر الدستور العراقي، الأرضية القانونية مساحة حرية، تم استثمارها بصورة سيئة، أدت لإضعاف المكونات وتعدد رموزها وتشتتهم.
رغم تلك التحديات والأثار الشديدة لرحيل الشهيد الحكيم، لكن ثوابته وقيمه التي كافح لأجلها، لازالت وستبقى عصية على الثقافات الدخيلة، وهي أمانة الشهيد في أعناق اتباعه ومحبيه، الذين كانوا على قدر المسؤولية في حفظ تلك الأمانة، رغم كل التحديات والمصاعب والإستهدافات، التي تعرضوا لها داخليا وخارجيا.. فالرجال قد يرحلون بالقتل، لكنهم يظلون إحياء بأفكارهم وما قدموه للحياة ولبلدهم وشعبهم..
عباس البخاتي. العراق. ميسان














