
سمير عادل
لا يُعرف على وجه الدقة من يقف وراء قرار إلغاء توجيه الادعاء العام القاضي بتحريك دعاوى قضائية ضد كل من يدعو في التصريحات الإعلامية إلى إسقاط النظام السياسي في العراق أو يشكك بشرعيته، والصادر في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2025. فهل جاء الإلغاء نتيجة تدخل النائب الجمهوري في الكونغرس الأميركي جون ويلسون، كما تذهب إلى ذلك بعض التسريبات الإعلامية، بعد أن اعترض على القرار واعتبره إجراءً يعاقب كل من ينتقد النظام الإيراني؟ أم أن الأمر، كما قيل رسميًا، نتج عن سوء فهم أو خطأ في تفسير القرار من قبل مدير مكتب الادعاء العام، ما استدعى توبيخه؟ ومهما تكن الأسباب الحقيقية وراء إلغاء هذا التوجيه، فإن إلغاءه يُعدّ خطوة إيجابية تصبّ في مصلحة الدفاع عن حرية الرأي وحرية التعبير، وهي حريات باتت مهددة بشكل متزايد في العراق.
إن نتائج الانتخابات التي جرت في 11 تشرين الثاني/نوفمبر، والتي كان يُفترض أن تُدخل الإطار التنسيقي – وهو تحالف يضم قوى الإسلام السياسي الشيعي وميليشياتها – في شهر عسل. الا ان التحولات السياسية الإقليمية، والاستراتيجية الأميركية الجديدة، ومشروع "الشرق الأوسط الجديد" حالت دون ان تطال أيام وليال ذلك الشهر.
والمعضلة الأعمق التي تواجه الإطار التنسيقي، بوصفه الدعامة الأساسية للنظام السياسي الحاكم في العراق، هي حالة الخوف والرعب المتنامية داخل صفوف الطبقة السياسية الحاكمة نفسها. ويمكن لمس هذا الخوف بوضوح من خلال القرارات المتكررة التي تصدر بين الحين والآخر وتمسّ حرية الرأي والتعبير وعموم الحريات السياسية.
فالقرار الأخير الذي جرى تسريبه إلى وسائل الإعلام، وما تبعه من موجة اعتراض واسعة، أُسقِط بسرعة عبر معاقبة مدير مكتب الادعاء العام، مع إعلان مجلس القضاء الأعلى براءته من القرار وتأكيده الدفاع عن حرية الرأي وحق التعبير.
أن نفي العلم بالقرار أو الادعاء بأن ما جرى كان سوء فهم لتفسير مقترح صادر عن مستشارية الأمن القومي وبموافقة الرقابة القضائية، هو طرح يصعب إقناع أي شخص يمتلك الحد الأدنى من الوعي السياسي به.
إن تنامي تدخلات وتصريحات مجلس القضاء الأعلى خلال السنتين الأخيرتين يكشف بوضوح أن الأطراف السياسية المشاركة في العملية السياسية عاجزة عن حسم مسألة السلطة السياسية، كما أنها غير مؤهلة لترسيخ النظام السياسي القائم. ويكفي التذكير بعدد من القضايا المفصلية، مثل: قضية دكتورة بان، ومسالة خور عبد الله واللغط الذي دار حولها، ومعاقبة أصحاب الفيديوهات ذات المحتوى الهابط، والجدل حول الانتخابات التي قيل إنها خالفت المواعيد الدستورية وكان تهيئة الاستعدادات في حال لم تحسم الانتخابات او وجد هناك من يعكر صفو الانتخابات، وأخيرا ما جاء في ملف توجيه الادعاء العام. كل ذلك يكشف بوضوح حجم الارتباك العميق داخل صفوف الطبقة الحاكمة.
ان هذا الارتباك لا يعكس سوى هشاشة النظام السياسي القائم، وفشله في بناء دولة فعلية في العراق، دولة تحتكر وسائل العنف، وتحسم مسألة السلطة السياسية، وتُرسّخ أسس النظام كما هو الحال – ولو بالحد الأدنى – في الدول التي تمتلك هوية سياسية واضحة وقوانين مستقرة، بغضّ النظر عن مضمونها الطبقي أو الموقف منها.
ومع التحولات العميقة التي شهدتها المنطقة، وتراجع النفوذ الإيراني، وعودة الولايات المتحدة بقوة تحت عنوان "الشرق الأوسط الجديد"– وهو مشروع نُسجت خيوطه عبر سياسات البلطجة والنازية التي تمارسها دولة إسرائيل – بات كل شيء مهددًا، أو بالأحرى آيلًا للسقوط، أو في أفضل الأحوال، عرضة لتغيير جذري.
وفي هذا السياق، يبدو العراق المحطة الأخيرة في مسار تصفية الحسابات مع النفوذ الإيراني، ذلك النفوذ الذي كانت الولايات المتحدة تغضّ الطرف عنه في مراحل سابقة، قبل أن تعود اليوم لمواجهته بشكل مباشر.
بشكلٍ آخر يمكن القول إن العملية السياسية التي أَرست النظامَ السياسيَّ الحاكم كانت تستند إلى دعامتين أساسيتين: الوجود الأميركي والنفوذ الإيراني. وكانت استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية تعتمد على الانسحاب من الشرق الأوسط في عهد إدارة باراك أوباما، ولذلك سمحت، أو غضّت الطرف، عن تمدد النفوذ الإيراني، وهو ما أتاح للنظام الحاكم آنذاك من يحميه.
وقد شهدنا وعشنا فصول ذلك خلال انتفاضة تشرين/أكتوبر، حيث كان ما سُمّي بـ«الطرف الثالث» يقتنص المتظاهرين بالعشرات، كما وصفه عادل عبد المهدي، رئيس الحكومة آنذاك، وكان يقصد بذلك الميليشيات التابعة لإيران.
اليوم، وبعد كل تلك التغييرات التي شهدتها المنطقة، تسعى الاستراتيجية الأميركية الجديدة إلى هدم هذه الدعامة، وهو ما يخشاه النظام السياسي الحاكم. لكن هذه ليست كل القصة؛ إذ إن الصراع السياسي المحتدم اليوم بين أجنحة الأحزاب الإسلامية الشيعية وميليشياتها حول السلطة، ومحاولات إيجاد حل للخروج من المأزق السياسي الذي خلقتها الاستراتيجية الامريكية الجديدة، وصعود أقطاب إقليمية أخرى مثل تركيا التي تعمل على تعزيز حلفائها في العراق، وما ترتب على ذلك من تشكيل المجلس السياسي الذي جمع «الإخوة الأعداء» أكثر مما هم أضداد، والذي تمثل بالقوائم السنية، والأحزاب القومية الكردية بما فيه الاتحاد الوطني الكردستاني الذي بدء بتغيير تجاه البوصلة من إيران إلى أمريكا ؛ فضلًا عن عجز الأحزاب الإسلامية عن تقديم أي نموذج لما يسمّى بـ«الحكم الرشيد» وفق معايير الطبقة الرأسمالية العالمية، أو توفير بيئة استثمارية آمنة لرأس المال، مثل تقليل الفساد، وتوفير فرص العمل، والسعي للجم الحركات الاحتجاجية المطلبية التي تتحول كل ثلاث سنوات تقريبًا إلى انتفاضات عارمة ضد النظام السياسي، كما حصل في شباط 2011، وتموز 2015، وتموز–أيلول 2018، وآخرها انتفاضة تشرين/أكتوبر 2019؛ كل هذه الأوضاع دفعت مجلس القضاء الأعلى إلى لعب دور صمام الأمان لحماية النظام السياسي الحاكم.
وليس هذا وحده ما يرعب الطبقة السياسية الحاكمة؛ فهناك أيضًا ما جرى في أفغانستان بعودة طالبان إلى السلطة، وفي سوريا باعتلاء الجولاني (الشرع)، زعيم أحرار الشام – جبهة النصرة سابقًا. كل هذه الشواهد تخلق حالة من الهواجس والخوف مما قد يحمله المستقبل. وكل ذلك حدث بدعم الولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا ما دققنا في القرارات وجملة القوانين التي صدرت بسرعة وخلال السنتين الماضيتين، وفي ممارسات حكومة السوداني في قمع الاحتجاجات السلمية، والتسرع في تبنّي هوية للدولة تقوم على الطائفية والاستبداد، نجد أن جميعها تعزف على لحن واحد، هو حماية النظام السياسي الحاكم وتأمين مستقبله.
إن مجلس القضاء الأعلى وعموم الطبقة السياسية الحاكمة يدركون جيدًا أن النظام السياسي الراسخ لا يخشى تصريحات هنا وهناك تدعو إلى إسقاط النظام، ولا يتدخل في قضية مثل خور عبد الله قبل أن تتحول إلى انتفاضة تهز النظام، ولا يتدخل في قضية جنائية كقضية تصفية الدكتورة بان، كما أنه ليس بحاجة إلى أن يسيء إلى نفسه في قضية مثل معاقبة نشر فيديوهات “المحتوى الهابط”، في الوقت الذي نرى فيه تصريحات طائفية بغيضة وتهديدات صريحة تُطلق عبر شاشات الفضائيات من قبل شخصيات سياسية مشاركة في العملية السياسية، من دون أن تتحرك أي دعوى قضائية ضدهم، رغم أن خطابهم لا يمكن وصفه بالهابط، بل هو ساقط بامتياز، ويهدد، من وجهة نظرهم، والدستور العراقي ما يسمّى بـ«الأمن القومي» و«السلم الأهلي».
لكن أكثر ما يُرعب النظامَ السياسيَّ الحاكم هو وجود سخطٍ شعبيٍّ واسع ضد الفساد والفقر والعوز ونقص الخدمات، وضد سياسات تكميم الأفواه، في الوقت الذي ترى فيه الجماهير كيف بذخت الأحزاب والقوى المتنفذة وميليشياتها اكثر من مليار دولار على الانتخابات، من دون أن يسألهم أحد: «من أين لكم هذا؟».
وفي المقابل، تقول لنا أرقام وزارة التخطيط إن نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر تبلغ 17.5%، أي إن خمسة أشخاص من كل ثلاثين يعيشون تحت خط الفقر. وتختلف هذه النسبة، كما تشير المصادر نفسها، من محافظة إلى أخرى؛ إذ تصل في السماوة إلى 40%، وفي البصرة، التي يستند إليها الاقتصاد العراقي، إلى 27.5%.
وبغضّ النظر عن مصداقية هذه الأرقام من عدمها، فان خطورة هذه الأرقام لا تكمن في بعدها الإحصائي المجرد، بل في دلالاتها السياسية والاجتماعية العميقة. فحين تعلن وزارة التخطيط أن 17.5% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، مع وصول النسبة إلى 40% في السماوة الغنية بالموارد الطبيعية و27.5% في البصرة التي يستند اقتصاد العراقي عليها بنسبة 90٪، فإننا أمام فشل بنيوي وفق المعايير العالمية لنظام الرأسمالي العالمي التي تدق ناقوس الخطر عندما تتجاوز الأرقام اكثر من 10٪، وليس من منظورنا الماركسي. وتُعدّ هذه النسب مؤشرًا على مشكلة هيكلية وإنذار اجتماعي واضح حسب نفس المعايير، ولا يمكن معالجته بإجراءات أمنية أو قرارات إدارية أو خطاب إنشائي عن الاستقرار.
ويزداد هذا الإنذار حدّة حين تُقارن هذه الأرقام بحقيقة أن الأحزاب والقوى المتنفذة وميليشياتها أنفقت أكثر من مليار دولار على العملية الانتخابية الاخيرة، في بلد يعجز فيه ملايين المواطنين عن تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم. هذا التناقض الصارخ بين بذخ السلطة وفقر المجتمع لا يُنتج فقط غضبًا اجتماعيًا، بل يُفقد النظام السياسي أي شرعية أخلاقية أو اجتماعية، ويحوّل الفقر من ظاهرة اقتصادية إلى عامل تفجيري سياسي.
إن التجربة التاريخية، سواء في العراق أو خارجه، تُظهر أن المجتمعات لا تثور بسبب الفقر وحده، بل بسبب الإحساس بالظلم وانعدام العدالة. ومع استمرار سياسات تكميم الأفواه، وتقييد الحريات، وقمع الاحتجاجات السلمية، يصبح السؤال الحقيقي ليس: هل ستنفجر الأوضاع؟ بل: متى وكيف؟
ومن هنا، فإن اعتقاد النظام السياسي الحاكم بإمكانية اختبار صبر الجماهير إلى أجل غير مسمى، هو وهم سياسي، يتجاهل أن تراكم الفقر، مع القمع والفساد وانسداد الأفق، لا يؤدي إلى الاستقرار، بل إلى انفجارات اجتماعية تتجاوز قدرة أي نظام على الاحتواء. وما زالت الجمرة مشتعلة تحت رماد انتفاضة أكتوبر.















