
محمد جواد الميالي
لم يكن الشيعة في العراق الحديث فصلاً ضمن رواية منصفة، بل ربما وفي أحسن حالاتهم كانوا هامشاً مكتوباً بلون باهت على أطراف الورق، لا يلتفت له أو يقرأه أحد، إلا حين يحتاجون لأن تسيل الدماء على حروفه.
منذ أن وُلدت الدولة العراقية الحديثة، كُتب على أبناء الجنوب والفرات الأوسط، أن يعيشوا على ضفاف التهميش، محرومون من حقهم في أن يكونوا شركاء في الوطن، الذي سقوه بعرقهم ودمائهم.. فخلال العهد الملكي، وحين كانت بغداد تتزين بقبعات الإنكليز وحرير الطبقة الإقطاعية، كان الشيعي يرى من خلال ثوبه القديم الموحل من طين الحقول، ولا يُستدعى إلا حين يحتاج إلى السواعد، ويُنسى حين يُوزع الخير ويتخذ القرار..
فلاحٌ ينحني أمام الإقطاعي، لا لذله أو لأن الأرض أحبته، بل لأن السلطة أرادته عبداً لها.. فكانت قصصهم تبدأ من السواقي في أطراف بغداد، ولا تنتهي إلا على أعتاب بيوت "الأفندية" في العاصمة، حيث لا يُسمح للفلاح أن يرفع عينيه، لأن نظراته وحدها كانت تُعد جرأةً على النظام الطبقي.
ثم جاءت الجمهورية سنة 1958، فظنّ أتباع أهل البيت أن الشمس أشرقت أخيراً بعد ليلٍ طويل، غير أن الوجوه تغيّرت، أما المعاناة والمعادلة الظالمة فبقيت على حالها، وصار الحاكم يرتدي القبعة العسكرية بدل الزي الملكي، لكن الشيعي بقي فلاحا، والسجين بقي من الجنوب، والرصاص وجد نفس الطريق لذات الصدور، التي لطالما حلمت بالعدالة.. لقد كان الانقلاب جمهورياً بالإسم فقط لا الجوهر، وظلّ الإقصاء هو الحاكم الفعلي.
المحنة الكبرى اكتملت أركانها، بوصول البعث للسلطة، ليستتم الحكاية السوداء.. فلم يكتفِ بإبعاد الشيعة عن السلطة، بل جعل من إذلالهم قانوناً، ومن موتهم طقوساً تُذاع على شاشات التلفاز، فامتلأت السجون بعشرات الأبرياء، وصارت المقاصل تحفظ وجوه الشهداء كأن للحديد ذاكرة.. فالنظام لا يريد من الشيعي إلا أن يكون رقماً في إحصاء العمال الصغار، أو ظلاً في أرضٍ لا يملكها، أو صدى لصوتٍ لا يُسمع، وفي عهد صدام ما كان الوطن بيتاً، بل سجنا ضيقا، يُغلق على من لا يسبّح بحمد الطاغية.
عام 2003 كان له رأيٌ آخر، فللمرة الأولى خرج الشيعي من هامش الصفحات إلى أعلى الورقة، فأصبح شريكاً في القرار بل وصانعه، وصوتاً يُحسب له ألف حساب، وأنتقل من بيت "الجينكو" المتداعي إلى فللٍ تطل على شواطئ الكوفة ودجلة، ومن عربات الحصان والحمير إلى السيارات الحديثة اليابانية والأمريكية وغيرها، ولم يكن التغيير مجرد عمرانٍ ورفاه، بل كان استعادةً لحقٍ إنساني سُلب منه قرناً كاملاً، وتلك هي حريته..
الحرية في أن يكون ويفكر ويختار ويرشح، وأن يقول "لا" دون أن يعتقل أو يُعدم بسببها.. ومع ذلك لا زال هناك من يحاول إستغلال الرأي العام، ليعيد الشيعة إلى الهامش ثانية، كما أُبعدوا عام 1921، بإدعاء الوطنية حيناً أو العدالة حيناً آخر، لكن غايتهم واحدة، حرمان الشيعة من الديمقراطية التي أعادت إنسانيتهم كحق أصيل، وليس منة من أحد أو تفضلا.
سيبقى سؤال تحيطه دموع الثكالى، وذاكرة أبناء الشهداء، ويتامى المغيبين في مقابر النظام السابق، هل سيخضع المواطن الشيعي ويُضيعها مرة أخرى! أم سننتفض بصوتٍ واحدٍ صارخين.. لا تضيعوها.












