كان لي خمسة أخوة

اثنين, 12/29/2025 - 21:03

 

رحيم الخالدي

جملة تجعل قلبي يعتصر، عندما أرى منشورات عبر التواصل الاجتماعي، أن هنالك فئة تمجد بأيام صدام، وتسميه "بالزمن الجميل" والبعض منهم لم يعاصر تلك الفترة، وهذا يدل على أن تلك العوائل بعثية كانت تتغذى بدماء الشهداء، وأنا سأنقل لكم لمحة بسيطة مما عاناه الشعب العراقي لذلك الزمن الأغبر، الذي تسلطت فئة ضالة من الهمج الرعاع، وتسلموا السلطة بتدبير القوى الإمبريالية العالمية .

 مر العراق بعد عام 2003 بمراحل سالت فيها الدماء، رغم محاولات كل الحكومات المتعاقبة، وكأن هذا التغيير كان مفتاحهُ الدم، الذي يبدوا أنه لم ينته ليومنا الحاضر..

هذا يدل على تبادل الأدوار بين فترة وأخرى، لجهات أو أدوات خفية وظاهرة.. فأما المعلن منها فهو ما نراه ويوفره العالم الإفتراضي وخدمات الإنترنت، الذي فضح كثير من الخفايا التي كنّا نجهلها، حالها حال الجزر الثلاث ، التي كان نظام صدام يدّعي أنها محتلة، من قبل إيران، بالوقت الذي لم نسمع أو نرى بالأخبار، أن الأمارات طالبت بها حينها!

ينقل عن صاحبة حكاية حقيقية روتها لنا شخصيا، وكانت متشعبة وفيها الكثير من التفاصيل، التي لا يمكن حصرها بمقال، ولكن سنقتطف منها المتيسر القليل مما عانته الأخت الكريمة:

تقول السيدة أنها المواطنة (أ ح ع) من الديوانية، حصلت لعائلتها كارثة لا يمكن تصورها، لكنها عاشتها أبان حكم نظام البعث الشوفيني المجرم، فكانت بدايتها نهاية الحرب العراقية الإيرانية، بإستشهاد أخيها الأكبر في العائلة، الراحل "فليح" والذي لم يكن مقاتلا، بل كان سائق في المعدات الثقيلة، التي تنقل الأحمال الكبيرة، وكنا نحمد الباري أن عائلتنا ما تورطت بالدماء في تلك الحرب، مما جعلنا نرضى ورغم خسارتنا الكبيرة..

عشنا فترة بسيطة ما بين إنتهاء الحرب كإستراحة نسبية من القلق والهم، الذي كان يصاحبنا ليل نهار ، وقد تقبلنا الأمر مضطرين حالنا كباقي الشعب العراقي، الذي نال حصته كما الباقين، ونحمده أن لنا أخوة باقين.. لكن هؤلاء لم يسلموا أيضاً من سطوة الأجهزة القمعية لنظام صدام، الذين ساقوهم لنهايتهم المأساوية دون تهمة أو جريمة، سوى أنهم من مناطق الفرات "الشيعية" ولم تشفع توسلات والدتي أمام آمر القوة، التي أتوا بها من بغداد خلال الإنتفاضة الشعبانية، والتي كادت أن تسقط حكم جرذ العوجة،  لولا تدخل دول الخليج وأمريكا .

كان يوما أسود حين جاءت لبيتنا مجموعة لغرض التفتيش، وكان وقت غداء والكل جالسون على المائدة، أخوتي الأربعة مع إثنان أحدهم إبن عمي والآخر إبن خالي، وسأل عن وضعهم حيث أخرجوا له المستمسكات وكونهم عسكريين، ويجب عليهم الالتحاق لكن الكراجات كانت فارغة من السيارات، فجاءوا للبيت لغرض الأكل والاستراحة والرجوع ثانية بهدف الإلتحاق، ويبدوا أنهم إقتنعوا بالكلام وبدؤا المغادرة.. لكن إعترضتهم إحدى "مخبرات" الأمن والحزب المقبور، ممن كانت تسكن قريبا لمنزلنا وطلبت منهم الرجوع، لأن هؤلاء حملوا السلاح ضد النظام، فما كان منهم إلا الرجوع وتكبيلهم جميعاً واقتيادهم الى العجلات المعدة سلفا.

بسبب هذه "المخبرة" التي تشوب سمعتها كثير من الشبهات، أعتُقل أخوتي وضيوفهم، وأُخذوا لمكان نجهله، ولم نترك مكان إلا وذهبنا لهُ، بغرض معرفة مصير أخوتي الذي أخذهم النظام البائد دون تهمة، سوى إخبار هذه "المشبوهة" التي لا تمتلك أي شرف، رغم أنها يفترض أن تعد " جارة" لنا، ولم نفهم لم أتهمتنا بهذا الإتهام! هل هو حسد أم كره أم شيء آخر لا نعرفه؟ ولم نحصل على نتيجة بعد طرقنا كل الأبواب..

أخوتي ما حصلنا على جثامينهم، فلم نبني لهم شواهد لقبورهم، حالنا حال أغلب الذين فقدوا أبناءهم، ومن هنا بدأت مأساة أبواي فهم كبار في السن، وحينها لم نكن نملك مصدر للزرق سوى تقاعد أبي، الذي لا يكفي لشراء طبقة بيض، مما أضطرنا لبيع أثاث البيت توالياً، لنعتاش في زمن الحصار الذي طال أمدهُ، وهذا جعل الحمل ثقيل على والدي المتعب ووالدتي، التي تأن الليل والنهار، على أمل ان تعرف مصير أولادها.

بعد سقوط الطاغية ونظامه المعلون، بحثنا وراجعنا حالنا ككل المكلومين بأحبائهم ، ولم نعثر على شيء إلا من خبر يقول، أن أبناءكم تم "ثرمهم"... ولا زلت أتذكر وجوههم وضحكاتهم، وكيف كانوا يتعاملون معي وباقي أفراد العائلة، ولم يبقى لنا شيء سوى ذكريات تتلاشى يوميا مع تقدم العمر، بعد قطع الأمل ببقائهم أحياء..

ما يثير الغضب والحسرة في قلوبنا، أن سبب إعتقال أخوتي وشهادتهم، هي إحدى "مشبوهات" الحزب الشوفيني، التي تُدْعى ( فضيلة موات) والتي لم تتحرك أي جهة لمحاكمتها أو محاسبتها، لا حكومية ولا حتى منظمات حقوق الإنسان!

منذ ذلك اليوم المشؤوم، لم يعرف بيتنا الضحكة التي كانت تملئه، ولا نستطيع أن ننسى سنوات من المعاناة، والأحداث والظروف والإرعاب الذي عشناه أو مر بنا، فوق خسارتنا لشباب بيتنا وأهلنا في ريعان صباهم.. ومن عاش تلك الأيام السود يفهم ماهي معاناتنا، لأنها لا يمكن أن تُوصف أو تُسْتَوعب، ولا زلنا لا نريد أن نصدق حقيقة أنهم رحلوا بلا عودة، ولا نريد أن نقبل أن لا أمل برجوعهم يوما، ولا نحن تمكنا أن نحصل على أجسادهم لندفنهم بكرامة، ونجلس نندبهم عند قبورهم كلما إشتقنا لهم..

كان يقال أن لدينا خمسة أخوة، لكنهم ضاعوا كدخان تسرب بين أيدينا، أو كحكاية إنتهت قبل أن تبدأ.. وكأن الأمر كابوس ثقيل قاتل، لكنه لم ولن ينتهي..

 

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطراف